فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{الر} تقدم الكلام عى الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس.
{كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}
الكلام على تركيب: {الر كتاب أنزلته إليك} كالكلام على قوله تعالى: {ألمص كتاب أنزل إليك} [سورة الأعراف: 1 2] عدا أن هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي، فللعلم بمنزله حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز؛ ولكنه ذكر هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله: {بإذن ربهم}، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبيء عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز.
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله: {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله: {بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} بعد أن كان المقام للإضمار تبعًا لقوله: {أنزلناه}.
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة.
وإذ قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه عُلِم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية.
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضلّ فبإيثار الضال هوى نفسه على دلائل الإرشاد، وأمرُ الله لا يكون إلا لحِكم ومصالح بعضها أكبر من بعض.
والإخراج: مستعار للنقل من حال إلى حال.
شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج.
و{الظلماتُ والنور} استعارة للكفر والإيمان، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل.
وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكانٍ نيّر.
وجمع: {الظلمات} وإفراد: {النور} تقدم في أول سورة الأنعام [1].
والباء في: {بإذن ربهم} للسببية، والإذنُ: الأمر بفعل يتوقف على رضَى الآمر به، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس، كقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}.
ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الربّ المضاف إلى ضمير الناس، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم.
وقوله: {إلى صراط العزيز الحميد} [سورة إبراهيم: 1] بدل من {النور} بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتمامًا به، وتأكيد للعامل كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} في سورة الأعراف [88].
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل، ظاهرة.
واختيار وصف {العزيز الحميد} من بين الصفات العُلى لمزيد مناسبتها للمقام، لأن العزيز الذي لا يُغلب.
وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيمٌ الحجة عليهم.
والحميد: بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعبَ الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاد الحيلة.
{الله الذي لَهُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض}.
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف.
والتقدير: هو أي العزيزُ الحميد اللّهُ الموصوف بالذي له ما في السماوات الأرض.
وهذا الحذف جارٍ على حذف المسند إليه المسمى عند علماء المعاني تبعًا للسكاكِي بالحَذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عندما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريرًا للغرض، كقول إبراهيم الصولي:
سأشكر عَمْرًا إن تراختْ منيتي ** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلّت

فَتى غيرُ محجوب الغنى عن صديقه ** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

أي هو فتى من صفته كيت وكيت.
وقرأه الباقون إلاّ رُويْسًا عن يعقوب بالجَرّ على البدلية من: {العزيز الحميد}، وهي طريقة عربية.
ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المنتقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه عَلَم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم.
وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله: {الحميد} وابتدئ باسم: {الله}، فإذا وصل: {الحميد} باسم: {الله} جر اسم الجلالة على البدلية.
وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف، لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين.
وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه.
وفي ذكر هذه الصلة إدماجُ تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض.
لمّا أفاد قوله: {إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} تعريضًا بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله: {وويل للكافرين من عذاب شديد}، أي للمشركين به آلهة أخرى.
وجملة: {وويل للكافرين} إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم، مثل قولهم: ويحك، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر.
{وويل} مصدر لا يعرف له فعل، ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة، ولأنه لا يُعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات، كما تقدم في رفع: {الحمد لله} في سورة الفاتحة.
ويقال: ويل لك وويلك، بالإضافة.
ويقال: يا ويلك، بالنداء.
وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجرورًا بحرف: {مِن} الابتدائية كما في قوله هنا: {من عذاب شديد}، أي هلاكًا ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار.
وتقدم الويل عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة [79].
والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
و{يستحبون} بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر.
وضمن: {يستحبون} معنى يؤثرون، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء، فنشأ من هذا معنى الإيثار، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف: {على} في قوله: {على الآخرة} أي يؤثرونها عليها.
وقوله: {ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا} تقدم نظيره في قوله: {أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا} في سورة الأعراف [45]، وعند قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا وأنتم شهداء} في سورة آل عمران [99]، فانظره هنالك.
والصدّ عن سبيل الله: منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه.
شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق.
وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيم، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه} [سورة الأنعام: 153].
والإشارة في قوله: {أولئك في ضلال بعيد} [سورة إبراهيم: 3] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل، {فأولئك} في محل مبتدأ و: {في ضلال بعيد} خبر عنه.
ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه.
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي، وإنما البعيد هم الضالّون، أي ضلالًا بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه.
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه.
ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله: {ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} [سورة الشورى: 18] وقوله: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} [سورة سبأ: 8]. وتقدم في قوله: {ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا} في سورة النساء [116]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9] وقوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] الآية غلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه وقد بين تعالى أنه لا يخرج أحدًا من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} الآية وأوضح ذلك في آيات أخر كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [النساء: 64] الآية وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [يونس: 100] الآية إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}